« الروح وما شجاها» قصة قصيرة للكاتب الدكتور السيد نجم

الدكتور السيد نجم
الدكتور السيد نجم

روحي معلقة بتفاصيل الحكايات التي سردتها على مسامع زوجتي، فبدت وكأنها أذنان كبيرتان تتحركان في اتجاه شفتي. كنت أقص عن زملاء الكتيبة ونحن نعبر القناة, ونتابع باعتلاء الساتر التربي .. وﺇن بدت أقل اهتماما، وأنا أقص عما جرى أثناء فترة "الثغرة"، أراها تتعمد جلبة ما. نجحت في جذبي ﺇليها، انتبهت.. رأيتها تكور جدائل شعرها المبلل بالمياه الدافئة.

 

بين الفينة والفينة ترمى أطراف شعرها الطويل ناحيتي في آلية وسكينة لم ألمحها من قبل، فنلت من القطرات الندية نفحة طلية. لم تتمهل طويلا، فضلت أن تقتحمني بغلالتها الداخلية الوردية الشفافة، ولا أدرى لماذا فضلت أن يبقى جسدها مبللا؟ لعلها كانت في عجلة من أمرها، وقد حذرتها من عادتها القديمة من البقاء طويلا مع جسدها وحدهما في الحمام أمام المرآة.

 

تعمدت الانشغال بما أنجزته كتيبتي، نجحنا في رشق العلم المصري فوق أعلى قمة هناك. ولم أشر ﺇلى ميتة "عبد الله شديد", ولا إلى ساق "سالم المسلمى" التي بترت، ولا حتى ﺇلى الملازم "رفعت" الذي فقد بصره، قد يتعكر صفو لقاء انتظرناه أكثر من ثلاثة شهور كاملة.

 

فلما همت برفع الخوذة الحديدية من فوق رأسي, تذكرت أنني لم أنزعها, ولم أبرح جلستي فوق طرف السرير منذ التقينا، لا أستطيع أن أقدر كم من الوقت انقضى.

قد يبدو الأمر مستغربا لمن يراني وأنا أنهرها أن تعيد الخوذة ﺇلى رأسي.. من كان معي أو شارك في جعجعة المعارك سوف يعذرني أكيد، وربما يهون من غضبة زوجتي التى كظمتها عنوة..الخوذة هي ستري وسر ﺇطمئناني.. كنت أضعها تحت رأسي لأنام، وأكنز فيها بولى لأشربه أثناء الحصار, وأخبئ تحتها كسرات الخبز الجافة لحين القحط، وقد سد الأعداء طرق الإمداد والتموين إلينا على الضفة الشرقية للقناة بعد الثغرة.

 

تربعت على الأرض وحفظت قدماي في حجرها لتنزع "البيادة" الثقيلة عن قدماي..انطلقت الآه حادة، سريعة، وعن غير رغبة منى. رمقتني متسائلة بعينيها اللامعتين، لم أستطع تجاهلها وأنا التقطها من عل وهي متكورة داخل غلالتها الشفافة اللامعة وقد التصقت بجسدها البض. لا أدري ماذا كان يعلوها ويحيطها من كل جانب.. لأنني سمعت صوتا ملائكيا يقول:

            "سلامتك"

 

لم تكن البسمة التي ارتسمت على سحنتي تخص الحقيقة التي أرجو أن أخفيها. كانت بسمة مرتبكة هزيلة، من جراء الآم غبية ألمت بمفصلي القدمان، بعد قفزة مهرولة خاطئة وأنا أعتلي القارب المطاطي في بداية العبور حتى كدت أغوص في أعماق مياه القناة. لولا أن بعضهم تصرف بحكمة أكثر مني.. بقيت تؤلمني. تصرفت بحكمة وبسرعة هونت عليها الأمر كله.. تمتمت بكلمات أعنيها وقد لا يفهمها إلا زوجتي في هذا العالم، فضحكت وضحكنا.

 

لم تربط الخلفة بيننا بولد أو بنت، وﺇن حرضتنا على اندغام جسدينا أكثر، ولطالما ساعدتنا الأيام والليالي.. إلا أيام الحرب.  بدت واثقة من نفسها ومني وهي تنهض بخفة من جلستها،  تتعلق برقبتي وبشفتي لفترة طويلة. فضلت أن تخلع عني ملابسي العسكرية، علها تزيح عن أنفها رائحة العرق الأقرب ﺇلى رائحة البول. طال انتظارها لأن أجيب على سؤالها، أعلنت أنها ستنفذ وحدها المهمة.. نهرتها أن تخفض من صوتها، بدت دهشة ولم تنطق، لم يطل انتظاري وقد ذهبا ثم عادت وبين ذراعيها وعاء من البلاستيك والصابونة المغلفة بورقها الأزرق اللامع مع تلك المنشفة الجديدة وقطعة اللوف الطويلة !

 

لم تترك موضعا من جسدي العاري إلا وهرسته.. توقفت فجأة مستفسرة عن سر تلك البقعة السوداء التي لا تعرفها من قبل في جسدى. افتعلت البسمة, قلت:

         "كنا قد نجحنا في اعتلاء الساتر الترابي دون أية خسائر تذكر سوى مفاصل القدمين,

          لكن رصاصة طائشة مكتوب عليها اسمي.. أصابتني!"

علقت بعد برهة شاردة.. "يا مصيبتي"

 فورا نطقت حنجرتي:        " لكنني الآن تمام ومثل الحصان..."

يبدو أن المزاح لم يعجبها، فلم تبتسم..!

أسرعت وشرحت لها كيف أنني نسيت ألمي فور أن هبطنا جميعا على الجانب الآخر من الساتر الترابي؟ وكيف كانت أجساد زملاء الكتيبة كلها ونسه لروحي وتحفزني على متابعة المهمة لاقتحام الدشمة الحصينة للعدو؟!

 

تابعت عفوا:

"بينما كنا على حال اندفعنا، إذا بزميلنا حامل مدفع "طالق اللهب" يصوبه عفوا وقد اختل توتزنه، فنلت والضابط رفعا شظايا اللهل عفوا، نحوى والضابط رفعت ﺇلى جواري, كانت إصابتي أهون، رفعت رأسي لأسب جد أجداده ، وأمه التى ولدته معتوها، وتابعنا المهمة!".

 

كما تابعت زوجتي مهمتها، حكت كل جسدي وأنا منتصب وسط الغرفة، فوق الطست الفارغ. يبدو أن أمرا ما شغلها، فلم تعلق، حتى بعد أن تابعت بأن العسكري لم يكن يقصدنا أكيدا، لكنها الحرب القادرة على فعل كل شئ غير متوقع!. وجدتها تلوى رقبتها وشفتيها، وتابعت:

        " أصابه الذهول ونال منه الصمت، ولم يتح لنا فرصة لأن نسبه أكثر.. ابن الشياطين تجاهل سبابي، اندفع قبلنا جميعا نحو فتحة المزغل موجها لسان اللهب ﺇلى ذاك الرابض خلف المزغل حتى أسكته وتقدمنا كلنا خلفه، تجاوزنا جثته المرشوقة بعشرات الرصاصات!"

 

لم تكن المحنكة في فنون الحب، راغبة في المزيد عن حديث الحرب، وليست مصادفة أن تركتني دون أن تجفف المياه الرائقة عن جسدي، ولا أن تترك لمبات نجفة الحجرة مضاءة على غير عادتها فى الحب معي. هالها ما عبرت عنه بالدهشة لأنني فقدت بريق شعر صدري الذي كان ينافس صدور ممثلي السينما، ومن قتامة جلدي بسبب حروق اللهب، حتى الوشم الأخضر بتعويذة الحسد.

 

ذاك الجسد الذي ظننت يوما أنها تعرفه وهي مغمضة العينين، لم يعد كما تعرف. وعبرت عن ذلك بجملة واحدة:

         " ماذا فعلوا فيك في الحرب ؟!"

لم أعقب، اكتفيت بمتابعتها تدور من حولي، وإن تمنيت ألا أتابع ما كان وما حدث، طلبت منها أن تتحدث بلطف أكثر مما تفعل، فلوت شفتيها. وصلتني معان لكلمات لم تنطق بها، لم أعهدها فيها من قبل.

بوسعي أن أفعل ما أريد غصبا!

لكنني لن أفعل..

أدرت وجهي عنها، التحفت بالظلمة وقد ضغطت على زرار الإنارة، رشقت رأسي بين الوسادتين, ثم عاهدت نفسي مستقبلا ألا أمارس الحب معها أبدا إلا فى الظلمة!.